إسرائيل- العبور كهيمنة، الفلسطيني كعائق על إسرائيل- מעבר כהגמוניה, פלסטיני כמכשול

في تساؤل عتيق الطراز، يكتسي رداء الدعابة، يُلقى على مسامع الدجاجة: "ما الداعي لعبورك الطريق؟"، فتأتي الإجابة المعهودة بتهكم لاذع: "للوصول إلى الضفة الأخرى بكل بساطة!".
لكن، ما إن نُسقط هذا السؤال في بوتقة السياق الإسرائيلي، حتى يتحول من مُزحة مستساغة إلى مشروع سياسي وأيديولوجي مُحكم، يحمل في طياته أبعادًا فلسفية، تاريخية، وحتى لاهوتية مُتشعبة. ففي الفكر الإسرائيلي، لا وجود لـ "عبور" عشوائي أو غير مُبرر، ولا "ضفة أخرى" ذات معالم واضحة وثابتة، بل هناك خارطة دائمة التحول، تُعاد صياغتها وهندستها باستمرار عبر القوة القاهرة، الخطاب السياسي المُنمق، والادعاء الأخلاقي المُتصلب.
الطريق هنا لا يمثل مجرد ممر مادي مُحسوس، بل يرمز إلى الهيمنة المُطلقة، السيادة النافذة، وإعادة تشكيل الواقع ليوافق رؤية صهيونية راسخة، متجذرة في إحساس عميق بالاستحقاق التاريخي والأمني. هذا المقال يتعمق في أغوار هذا العبور المُعقد، متتبعًا دوافعه السياسية المُعلنة والخفية، أبعاده العسكرية والاستيطانية المتوسعة، ووصولًا إلى تأثيراته المدمرة على الفلسطيني الذي يُختزل وجوده إلى مجرد عائق مُعيق في هذا المشروع الاستعماري.
فلسفة الطريق: العبور كاستراتيجية للهيمنة
إسرائيل، في صميمها، لا تمثل دولة تطمح إلى الاستقرار داخل حدود مُعترف بها وثابتة، بل هي كيان مُستمر في حالة عبور دائم، يتغذى على فكرة إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والرمزي المحيط به.
العقل الإسرائيلي، كما تكشفه النصوص العبرية المُقدسة والسياسات التي يتبناها القادة، لا يرى في الثبات والاستقرار فضيلة، بل في التوسع والسيطرة المستمرة. الطريق، في هذا السياق، لا يمثل مجرد قطعة أرض أو حدود مُتفق عليها، بل هو فضاء مُتسع لفرض السيادة عبر الاستيطان المُتنامي، العمليات العسكرية المُباغتة، أو إعادة صياغة الرواية الإعلامية بما يخدم مصالحها.
هذا المفهوم يتجلى بوضوح في اللغة العبرية المُستخدمة في الخطاب السياسي، حيث تُوظف مصطلحات مثل (التوسع) "הרחבה"، و(السيادة) "ריבונות" كركائز أساسية لتبرير أي تحرك أو إجراء تتخذه الدولة.
العبور هنا ليس مجرد فعل عابر أو مُؤقت، بل هو مخطط هيمنة مُحكم، يسعى جاهدًا لإعادة كتابة التاريخ والجغرافيا، ليس فقط بهدف تغيير المشهد الظاهري، بل لترسيخ سردية تجعل إسرائيل هي المالك الحصري للطريق ومُتحكمة به بشكل كامل.
هذا المخطط يتجاوز البعد الأنطولوجي للوجود الصهيوني، ليتحول إلى طموح سياسي جامح يقوم على فرض الأمر الواقع بكل الوسائل المتاحة، مهما كانت قاسية أو غير قانونية.
إسرائيل السياسية: العبور كحق مُكتسب
في المشهد السياسي الإسرائيلي، لا يمثل القانون عائقًا أو قيدًا، بل هو أداة مُرنة تُعاد صياغتها وتطويعها لخدمة الأهداف الإستراتيجية العليا للدولة.
بدءًا من ضم القدس الشرقية في عام 1967، مرورًا بقانون القومية المثير للجدل في عام 2018، والذي كرس إسرائيل كدولة قومية حصرية لليهود فقط، وصولًا إلى التنكر الصريح لحل الدولتين الذي يحظى بدعم دولي واسع، يظهر العبور السياسي كخيار مُمنهج ومُتعمد، وليس كمجرد استجابة لظرف طارئ أو مُستجد.
مقولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مؤتمر إيباك عام 2017: "ما لا تفرضه على الأرض، لا يُحسب لك في التاريخ"، تلخص هذا المنطق بشكل واضح. فالشرعية، في هذا السياق، لا تُستمد من قرارات الأمم المتحدة أو الإجماع الدولي، بل من موازين القوة والقدرة على فرض السيطرة.
إسرائيل تعبر وتتوغل لأنها تمتلك القدرة على ذلك، ولأن الاعتراضات الدولية، على الرغم من صخبها الإعلامي، غالبًا ما تظل مجرد حبر على ورق، دون تأثير حقيقي على أرض الواقع.
هذا المنطق يفسر استمرار إسرائيل في فرض سياسات الأمر الواقع، سواء عبر ضم الجولان السوري المحتل أو دعم مشروع "صفقة القرن" الذي سعى إلى إعادة رسم حدود المنطقة بما يتماشى مع رؤيتها السياسية والاستراتيجية.
إسرائيل العسكرية: العبور في ظل غياب الرادع
العقل العسكري الإسرائيلي يتجاوز مفهوم الدفاع التقليدي عن النفس، ليتبنى إستراتيجية هجومية استباقية تهدف إلى منع أي تهديد مُحتمل. رئيس الأركان السابق أفيف كوخافي عبّر عن ذلك بوضوح في تصريح لصحيفة هآرتس عام 2020، حين قال: "لن ننتظر أن تُنتهك سيادتنا، بل سنبادر إلى رسمها من جديد حين نرى أن ذلك يخدم مصالحنا".
هذه الرؤية تجسدت في عمليات عسكرية متكررة وشاملة، بدءًا من عملية "القبضة الحديدية" في قطاع غزة المحاصر، وصولًا إلى الغارات الجوية المتكررة في سوريا ولبنان، حيث تُبرر إسرائيل تحركاتها بمبدأ "الدفاع الاستباقي" الذي يسمح لها بالتدخل في أي مكان ترى فيه تهديدًا لمصالحها.
العبور العسكري هنا ليس مجرد اجتياح عابر، بل هو فرض لقواعد جديدة على الأرض. فهي لا تعترف بخطوط حمراء لغيرها، وتتعامل مع صمت المجتمع الدولي المُطبق كضوء أخضر للاستمرار في سياساتها العدوانية.
هذا المنطق يجعل الطريق ملكًا لها وحدها، طالما أن الردع الفعلي غائب ومُتلاشٍ.
إسرائيل الاستيطانية: العبور كوعد إلهي
في الخطاب الصهيوني الديني، يتحول العبور من مجرد فعل سياسي أو عسكري إلى مشروع لاهوتي مُقدس. فاليمين الصهيوني المتطرف، بقيادة شخصيات مثل بتسلئيل سموتريتش، يرى في كل تلة فلسطينية "وعدًا توراتيًا" يجب استعادته وتحقيقه.
تصريح سموتريتش في راديو الجيش عام 2023: "كل من يمنعنا من البناء في يهودا والسامرة، يمنع عودة التاريخ"، يكشف عن رؤية مُتطرفة تجمع بين الأيديولوجيا الدينية والطموح السياسي الجامح. فالاستيطان لا يمثل مجرد توسع جغرافي، بل هو محاولة لإعادة صياغة التاريخ والجغرافيا وفقًا لرواية توراتية مُحرفة. الطريق هنا لا يمثل مجرد طريق إسفلتي مُمهد، بل هو خريطة رمزية تحمل أحلام "أرض الميعاد"، وتُغطى بالبؤر الاستيطانية العشوائية كرموز للسيادة الدائمة.
إسرائيل الأمنية: العبور لتطهير الشكوك
الأمن في إسرائيل لا يمثل مجرد سياسة، بل هو هوية مركزية تُشكّل العقل الجمعي وتوجه سلوكه. الجنرال عاموس يادلين، في ندوة لمعهد أبحاث الأمن القومي عام 2019، لخّص هذا الهوس الأمني بقوله: "لا نملك رفاهية الانتظار. في هذا الحي، من لا يضرب أولًا، يُدفن".
هذا المنطق يجعل العبور الأمني فعلًا لا يحتاج إلى مبرر ملموس، لأن الخطر مُفترض دائمًا. اغتيالات في بيروت، قصف أهداف مدنية في غزة، أو سحب تصاريح من أطباء فلسطينيين، كلها تُبرر بحجة "تطهير الطريق" من أي تهديد مُحتمل أو مُتخيل.
هذا النهج يعكس عقلية مُتشبثة ترى في كل ظل خطرًا مُحدقًا، وفي كل تحرك دفاعًا مُستميتًا عن الوجود.
إسرائيل الإعلامية: العبور لاحتلال العقول
الإعلام الإسرائيلي لا يكتفي بتغطية الأحداث، بل يعيد تشكيلها وتفسيرها لخدمة السردية الرسمية للدولة. ناطق الجيش دانيال هاغاري، في مؤتمر الأمن الإعلامي عام 2024، قال: "جزء من المعركة هو من يكتب الرواية أولًا، ومن يُقنع العالم أن عبورنا ضروري ومُبرر".
هذا المنطق تجلى بوضوح في تغطية اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة عام 2022، حيث نشرت وسائل إعلام إسرائيلية وغربية روايات مُضللة حول ملابسات الحادث، مُحاولة تحميل المسؤولية للفلسطينيين، قبل أن تثبت التحقيقات المُستقلة تورط القوات الإسرائيلية بشكل قاطع.
كذلك، شهدنا استخدام صور أطفال سوريين أبرياء في سياق هجمات على غزة لتعزيز سردية "الضحية الإسرائيلية". الإعلام هنا يصبح أداة عبور لاحتلال الرأي العام العالمي، حيث يُحوّل القاتل إلى ضحية، والضحية إلى خطر مُحتمل.
إسرائيل الأخلاقية: العبور كمهمة مُقدسة
في خطابها الأخلاقي المُعلن، لا تتحدث إسرائيل عن انتقام، بل عن "واجب أخلاقي". رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، في محاضرة بجامعة تل أبيب عام 2018، قال: "أحيانًا، تحتاج لفعل مُؤلم من أجل منع شرّ أعظم… هذه هي الأخلاق كما نفهمها". بهذا المنطق، يتحول القصف العشوائي إلى "مهمة تنويرية"، والعبور العسكري إلى "تدخل في خدمة القيم".
لكن السؤال الذي يبقى مُعلقًا دون إجابة هو: قيم من؟ ومن يحدد هذه القيم؟
الفلسطيني: عقبة على الطريق
في الرواية الإسرائيلية السائدة، لا مكان للفلسطيني كشريك مُتساوي في الطريق. وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عبّر عن هذا بوضوح في عام 2023، حين قال: "إذا أراد الفلسطيني العبور- القصد عن شوارع الضفة الغربية- فعليه أولًا أن يعترف بأن الطريق لنا".
الفلسطيني، في هذا السياق، ليس مواطنًا ولا مُقيمًا، بل جسمًا مُريبًا يُعيق مشروع العبور الاستعماري. فلا يُطلب منه أن "يتأسرل"، بل يُكتفى بأن يتخلى عن هويته الوطنية، عن حقه التاريخي في الأرض، وعن روايته التاريخية الخاصة، كي يُسمح له بمجرد المرور العابر والمُؤقت في طريق ليس له. يُمنع من التنقل بحرية، من الحلم بمستقبل أفضل، من امتلاك سردية خاصة به، ويُختزل إلى تهديد دائم يجب تطهيره من المشهد.
خاتمة: الطريق للجميع، وليس لطرف واحد فقط
الطريق، في نهاية المطاف، ليس ملكًا لأحد.
العبور الإسرائيلي المُستمر، مهما تكرر، لا يخلق شرعية دائمة، ولا يمنح امتلاك المسرب الأوحد الحق في تقرير النهاية.
إسرائيل، على مدى أكثر من 75 عامًا، سعت لجعل الطريق حِكرًا عليها، رافضةً أي فكرة للتعايش السلمي أو التشارك العادل، لأن العقل الصهيوني في صيغته الحالية لا يرى في الآخر سوى عائق يجب إزالته والتخلص منه.
لكن التاريخ يعلمنا أن الطرق الحقيقية لا تُبنى بالقوة والإكراه، بل بالعدالة والإنصاف.
وفي زمن تُقتل فيه الدجاجة لأنها "عبرت الطريق"، ماذا يتبقى لمن لا طريق له أصلًا؟ الطريق إلى المستقبل لا يمكن أن يكون إلا طريقًا يُعاد ترتيبه بالإنصاف، لا بالهيمنة والإقصاء الممنهج.
وما دامت إسرائيل ترفض الاعتراف بحق الآخر في الوجود الكريم، فإن عبورها سيظل ناقصًا، عالقًا في دوامة الصراع التي لا تنتهي إلا بإعادة تعريف الطريق نفسه.